أولا: الدعاء والذكر من أعظم العبادات، والعبادات مبناها على النص والاتباع، لا على الإحداث والاختراع، والأصل في الدعاء والذكر أن يقوم به كل إنسان بمفرده وأن يكون بصوت منخفض، كما دلت على ذلك آيات القرآن ونصوص السنة الصحيحة، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾[الإسراء: 110] قالت عائشة رضي الله عنها: «أنزل هذا في الدعاء» متفق عليه، وقال سبحانه: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[الأعراف: 55]، قال بعض المفسرين: أي: المعتدين برفع أصواتهم في الدعاء، وقال - جل وعلا - : ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾[الأعراف: 205]، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: «كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفا ولا نهبط في واد إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا» وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر على الذين رفعوا أصواتهم بالتكبير وهم في الفضاء فالإنكار على من يفعل ذلك في المساجد وإيقاعه بأصوات متطابقة بتطريب وتلحين من باب أولى.
وجاء عن جمع من السلف من الصحابة فمن بعدهم الإنكار على الذين يجتمعون فيدعون بصوت واحد أو يذكرون الله بتهليل أو تكبير أو تسبيح بصوت واحد، فعن أبي عثمان النهدي قال: كتب عامل لعمر بن الخطاب إليه: إن هاهنا قوما يجتمعون فيدعون للمسلمين وللأمير، فكتب إليه عمر: أقبل بهم معك، فأقبل، وقال عمر للبواب: أعد سوطا، فلما دخلوا على عمر علا أميرهم ضربا بالسوط
وقال عمر بن يحيى سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد ؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن: إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو ؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم ؟ قال: ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك أو انتظار أمرك... إلى أن قال ابن مسعود - رضي الله عنه - لما وقف عليهم: ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة ؟ قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لم يصبه
فهذا أبو موسى الأشعري وابن مسعود - رضي الله عنهما - أنكرا على أولئك النفر تلك الكيفية والهيئة الجماعية للذكر، مع أن الذكر مستحب ومرغب فيه، ولكن ليس على الطرق المبتدعة المخترعة، وكيفيته وهيئته يجب أن تكون على الطريقة المتلقاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه البررة - رضي الله عنهم - .
وعن مجاهد قال: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب، فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص، فقال سعيد: ما أسرع بهم إلى هذا المجلس، قال مجاهد: فقلت: يتأولون ما قال الله تعالى ذكره، قال: وما قال ؟ قلت: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾[الأنعام: 52] قال: وفي هذا ذا ؟ إنما ذاك في الصلاة التي انصرفنا عنها ألا إنما ذاك في الصلاة وعن مجاهد أيضا قال: صلى عبد الرحمن بن أبي عمرة في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فلما صلى قال: فاستند إلى حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فانثال الناس عليه، فقال: يا أيها الناس: إليكم، فقيل: يرحمك الله، إنما جاؤوا يريدون هذه الآية: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾[الأنعام: 52]، فقال: وهذا عني بهذا، إنما هو في الصلاة وواضح من هذه الآثار وغيرها أن السلف الصالح كانوا ينكرون الاجتماع للدعاء أو الذكر واتخاذ ذلك أمرا راتبا، فكيف إذا انضاف إلى ذلك رفع الأصوات والتلحين ؟
الحاصل أن المشروع في الدعاء والذكر أن يقوم به كل إنسان بمفرده غير رافع صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه أو جاره، إلا ما استثناه الشارع كالدعاء من الإمام في الصلاة والتأمين عليه سواء بعد الفاتحة أو في القنوت ونحو ذلك.
ثانيا: وأما الآثار المروية عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - ؛ كأثر عمر أنه كان يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا، وأن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهم - فالجواب عن ذلك: أن سماع أهل المسجد لعمر لا يدل على أنه كان يرفع صوته بالتكبير رفعا منكرا، وإنما كان - رضي الله عنه - جهير الصوت، وكانت قبته إلى جانب المسجد، فكان إذا كبر وهو فيها سمعه أهل المسجد فتنبهوا من غفلتهم وكبروا كل بمفرده، ومثل ذلك فعل ابن عمر وأبي هريرة، ولم يذكر عنهم - رضي الله عنهما -نهم كانوا يبالغون في رفع أصواتهم بالتكبير، وحاشاهم أن يخالفوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» وأيضا فإن عمر وابنه وأبا هريرة - رضي الله عنهم - كان كل منهم يكبر بمفرده وكذلك كل من سمعهم فإن كلا يكبر بمفرده، ولم يكن منهم اجتماع على صوت واحد وتلحين وتطريب والله أعلم.
ثالثًا: يجب على جميع المسلمين في كل زمان ومكان بذل النصيحة فيما بينهم، وبحث المسائل في ضوء الكتاب والسنة، والتجرد من الهوى والعصبية لغير الحق، وأن يحبوا لإخوانهم من الخير ما يحبون لأنفسهم، وأن يسعوا إلى الاجتماع والألفة والبعد عن الافتراق والنفرة، وأن يجتهد الجميع في متابعة السنة والسير على منهاج سلف الأمة، ففي ذلك الخير والعصمة، وليس الاختلاف في هذه المسائل موجبا للتقاطع والتناحر، بل الواجب التناصح وبيان السنة وعدم الاختلاف في أداء الصلوات جماعة بسبب هذه المسائل، نسأل الله الكريم لنا ولإخواننا المسلمين الهداية والتوفيق، وأن يمن علينا بسلوك صراطه المستقيم والثبات عليه، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، إنه سميع قريب مجيب.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اطلع أيضًا على : حكم لبس الأقنعة التنكرية
هل انتفعت بهذه الإجابة؟